نَحْوَ إستراتيجيّاتٍ جديدةٍ للتَّحرر الوطني الفلسطيني

خياراتٌ لتحقيقِ الغاياتِ الإستراتيجيّةِ الفلسطينيةِ في ظلِ انهيارِ المفاوضاتِ الثُّنائيّةِ

مجموعةُ التفكيرِ الإستراتيجيِ الفلسطيني

تموز 2011

المقدمة:

مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني: هي منتدى مفتوح وتعددي للحوار والنقاش الإستراتيجي، يقوم الفلسطينيون من خلاله من مختلف الأطياف الاجتماعية والسياسية بالتحليل الإستراتيجي لبيئة الصراع مع إسرائيل؛ بهدف تقوية وتوجيه المشروع الوطني الفلسطيني للتحرر والاستقلال. وتأمل المجموعة أن تسهم هذه الوثيقة في إثراء الحوار الوطني الجاري، ومساعدة صناع القرار الفلسطينيين في تبني التوجهات الأكثر إفادة للمصالح الوطنية الفلسطينية العليا في هذه المرحلة الزمنية الحاسمة من كفاحنا الوطني.

أنجزت المرحلة الأولى من عمل مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني في أيلول 2008، وانتهت بإصدار وثيقة هامة بعنوان "استعادة زمام المبادرة – الخيارات الإستراتيجية الفلسطينية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي". وتم على أساسها وما سبقها من عمل ولقاءات إنجاز المرحلة الثانية من عمل المجموعة عبر ثلاث ورش عمل، عقدت في كل من أريحا وغزة عام 2010 وإستنبول في 2011.

لا تتصدى هذه الوثيقة لمهمة صياغة إستراتيجية وطنية فلسطينية جديدة ولا تزعم ذلك، فهذه المهمة هي مسؤولية القادة المنتخبين للشعب الفلسطيني. بيد أنها تأمل في تقديم تحليل معمق للخيارات الإستراتيجية التي من شأنها أن تسهم في صوغ الإستراتيجية الوطنية المأمولة، خاصة في ضوء عدم استمرار، بل وسقوط، عدد من الافتراضات التي قامت عليها الحركة السياسية الفلسطينية حتى الآن، وانتفاء القدرة على تطبيقها. إضافة إلى ذلك فإن الوثيقة تتضمن توصيات مباشرة حول كيفية الانتقال من مرحلة الافتراضات (أو الإستراتيجيات) غير القابلة للتنفيذ إلى الافتراضات والإستراتيجيات الجديدة.

وتجدر الإشارة إلى أن جميع أعضاء مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني، شاركوا في المناقشات التي دارت في ورش العمل الثلاث، وأسهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في اقتراح وصوغ الأفكار التي تتضمنها هذه الوثيقة. لكن من المهم أيضا التأكيد على أنه في الوقت الذي تتمتع فيه هذه الوثيقة بالإجماع القوي على جوهرها العام، إلا ان ذلك لا يعني أن كل فرد من أفراد المجموعة يوافق على كل فكرة من الأفكار الواردة فيها، فهذا من غير الممكن أصلا. ومع ذلك يمكن القول بقدر كبير من الثقة: إن روح وتوجه هذه الوثيقة يعكسان القدر الأكبر من إرادة الشعب الفلسطيني إزاء مستقبله القريب والبعيد في التخلص من الاحتلال وإنجاز حق تقرير المصير وتحقيق الاستقلال. ومن الطبيعي بكل الأحوال أن تستمر المناقشات والرؤى الوطنية حول اجتراح أفضل الإستراتيجيات الممكنة، وهو أمر حيوي وضروري ويجب أن يرحب به في سياق أي نقاش ديمقراطي حقيقي حول المستقبل الفلسطيني. وتكمن الأهمية المتوخاة من النقاشات وخلاصتها المسجلة في هذه الوثيقة، وربما معيار نجاحها أيضًا، في مقدار إسهامها في المرحلة الجديدة من النضال الوطني، خاصة بعد المصالحة الفلسطينية.

في مقدمة التحليل الذي توافقت عليه مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني حول الظرف والخيارات الإستراتيجية التي تواجه الفلسطينين، يبرز شبه الإجماع على أن خيار المفاوضات الذي تبنته القيادة الفلسطينية على مدى عشرين عاما بهدف إنهاء الصراع مع إسرائيل قد انتهى في المستقبل المنظور، إذ أنهته إسرائيل. وليس ثمة حاجة للتدليل على أن إسرائيل ليس لديها أية نية للتفاوض الجدي من أجل إقامة دولة فلسطينية حقيقية على أي جزء من أرض فلسطين التاريخية. بل على العكس من ذلك، فإن الهدف الإستراتيجي الإسرائيلي والمستمر هو إدامة الاحتلال الكولونيالي الاستيطاني لأرضنا، وضمان عدم إقامة دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة حتى على مجرد 22% من أرض فلسطين الانتدابية قبل عام 1948.

يريد الإسرائيليون إنكار كل الأسس الدينية والأخلاقية وأسس القانون الدولي، التي يعتمد عليها الفلسطينيون في نضالهم ودعوتهم إلى إعلان الدولة الفلسطينية، فضلا عن الحق الجماعي المعترف به دوليا للشعوب لإقامة وطن قومي وحق تقرير المصير والاستقلال. إن إنهاء إسرائيل لخيار المفاوضات يؤكد للعالم على حقيقة إن الفلسطينيين هم من لم يكن لديهم شريك في التفاوض طيلة السنوات الماضية، حيث كرست إسرائيل من احتلالها واستيطانها وكل ما من شأنه تدمير حلم إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

والسؤال الذي يمثل أمامنا بقوة الآن مع انتهاء خيار المفاوضات الثنائية، يتمحور حول الخيارات والإستراتيجيات الممكنة والبديلة التي يمكن للشعب الفلسطيني تبنيها لتحقيق أهدافه المشروعة. ومن حسن الحظ أن نطاق هذه الخيارات والبدائل قد اتسع بعد الثورات التي هزت وما تزال تهز العالم العربي، وتوفر الوسائل والآفاق الجديدة التي طرحتها الثورات العربية فرصة لإعادة تجديد النضال الفلسطيني في سياق إقليمي مختلف وعلى أسس أكثر فاعلية. ففي هذا السياق وضمن الوسائل الفعالة التي طرحتها الثورات العربية، فعلى سبيل المثال، يمكن إعادة النظر في الأساليب والأهداف قصيرة المدى بطريقة تهمش قوة إسرائيل العسكرية، وتحولها إلى عبء ومكمن ضعف لإسرائيل.

لا يمكننا الاستفادة مما توفره الثورات العربية والتغيرات الإقليمية إلا إذا كنا قادرين في المقام الأول على صياغة وبلورة وتنفيذ إستراتيجية متماسكة جديدة للتحرر الوطني. ويجب تحقيق هذا خلال الأشهر القليلة المقبلة، في الوقت الذي تكون فيه المرحلة الحالية من "العملية السلمية" قد وصلت إلى نهايتها وأعلن عن فشلها رسميا، وهذا كله يحتاج إلى دينامية سريعة وفعالة.

عناوين الوثيقة:

- المتطلبات الإستراتيجية.

- السيناريوهات الإستراتيجية.

- الأهداف الإستراتيجية.

- الخيارات الإستراتيجية.

- النقاش الإستراتيجي.

(ويندرج تحت البند الأخير: "السلطة الإستراتيجية"، "السياق الإستراتيجي"، "المقاومة الإستراتيجية"، "الخطاب الإستراتيجي"، "التأثير على الرأي العام الإسرائيلي"، "المسار الإستراتيجي ومعايير التقييم"، "أجندة العمل القادم"، "الخلاصة").

المتطلبات الإستراتيجية:

هي المتطلبات التي من دونها لا يكون هناك إستراتيجية وطنية. وحددت مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني متطلبين أساسيين في هذا المقام، هما: التفكير الإستراتيجي، والوحدة الإستراتيجية. وينبني اشتراط متطلب "التفكير الإستراتيجي" على التجربة المريرة الماضية، حيث بُنيت السياسة الفلسطينية (بما فيها العمل العسكري) على أسس عشوائية وغير منسقة لفترة طويلة جدا، وكثيرا ما أدت إلى نتائج عكسية، هذا على الرغم من وجود بوادر تحسن مؤخرا. وأصبحنا في أمس الحاجة إلى صوغ إستراتيجية منطقية ومتماسكة، تأخذ بالاعتبار كل التعقيدات المحيطة، لكنها بعيدة عن سياسة ردود الفعل الفورية وقصيرة النظر، إستراتيجية قادرة على اتخاذ زمام المبادرة وتطويع الوسائل المتاحة وتعظيم الاستفادة منها.

وندرك هنا أن المحك الأساسي للتفكير الإستراتيجي، لا يكمن في مثاليته النظرية أو حتى تماسكه المنطقي، بل في إمكانية تطبيقه على الأرض وإنجاز أهدافه، ولذا فهناك حاجة دوما إلى وضع إستراتيجيات بديلة (الخطة ب)، تكون جاهزة لتبنيها فورًا وتفعيلها في حال فشل الإستراتيجية الأصلية، وتستوجب سرعة الانتقال من إستراتيجية إلى أخرى بدقة وتوقيت سليم الشروط التي يتطلبها التفكير الإستراتيجي بشكل عام، وهي التحليل العميق، والجرأة، والأفكار الخلاقة، والمرونة، والسرعة، إضافة إلى عنصر المفاجأة.

أما المتطلب الإستراتيجي الأساسي الثاني "الوحدة الإستراتيجية"، فمعناه الحاجة الدائمة إلى مشاركة الشعب الفلسطيني كله في القرارات التي تؤثر تأثيرًا عميقًا في مستقبله، والشفافية المطلقة فيما يتعلق بذلك. لكن "الوحدة الإستراتيجية" لا تعني الإجماع أو التوافق الكامل، لأن ذلك شبه مستحيل إذ ستكون هناك دائمًا خلافات مشروعة حول الأهداف والوسائل الإستراتيجية.

وانطلاقا من الوعي الكامل بضرورة التفريق بين الوحدة الإستراتيجية وعدم تحقق الإجماع الكامل، فإن مجموعة التفكير تتفادى الانغماس في السياسة الداخلية الفلسطينية (كمجموعة)، لكنها تنبه إلى مركزية النظر الإستراتيجي بعيد المدى الذي يقر بالخلافات الداخلية، لكن لا يسمح لها بإحباط الفاعلية الوطنية. ولهذا فإن منظور العمل لمجموعة التفكير قام ويقوم على دعوة جميع الأطراف والتنظيمات الفلسطينية لإخضاع التنافس الحزبي والفصائلي لصالح إستراتيجية وطنية موحدة وشاملة، تقوم على تعظيم الجهد الوطني العام وتكريس مكتسباته. وهذا واجب وطني يتخطى كل الاعتبارات الأخرى. وهكذا فإن غياب الوحدة الإستراتيجية للفلسطينين سيعرض جميع التضحيات الماضية للتبدد والضياع، أما غياب المطالب الوطنية الموحدة والمحددة بوضوح فسيلحق ضررًا كبيرًا بمكانة قضيتنا الوطنية إقليميًا ودوليًا.

السيناريوهات الإستراتيجية:

تمثل السيناريوهات الإستراتيجية عمليًا المستقبلات المحتملة، وتعمل على بناء وتشكيل التفكير الإستراتيجي نفسه عن طريق ربطها بالخيارات المستقبلية المفضلة وغير المفضلة بالقدرة على تحقيقها أو إحباط حدوثها، وهي، أي السيناريوهات الإستراتيجية، تربط بين ما هو مرغوب (desirability) والقدرة على تحقيق ذلك المرغوب (attainability)آخذة بالحسبان مصالح الأطراف المختلفة وتوزيع القوى بينهم، وتتحكم العلاقة المتغيرة بين ما هو مرغوب والقدرة على تحقيق ذلك المرغوب في تعريف الأهداف الإستراتيجية قصيرة وطويلة الأمد, وتحدد العلاقة بينهما.

هناك استعراض لأربعة سيناريوهات إستراتيجية مقبولة بشكل نسبي للفلسطينيين وأربعة أخرى غير مقبولة في تقرير "استعادة زمام المبادرة" الذي أصدرته مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني عام 2008، وتم تحليل القدرة المتوفرة لتحقيق هذه السيناريوهات أو منع تحقيقها من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين والمجتمع الدولي. ولن نكرر هنا مناقشة ذلك التقرير وإنما نكتفي بعرض السيناريوهات حتى تكون في خلفية النقاش الذي سيتناوله التقرير الحالي، وهي كالآتي:

السيناريوهات المقبولة لدى معظم أو قسم كبير من الفلسطينيين:

1. دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود عام1967 عاصمتها القدس، مع تسوية عادلة تنجز حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض.

2. دولة واحدة ثنائية القومية للإسرائيليين والفلسطينيين.

3. دولة واحدة ديمقراطية ليبرالية تعامل جميع المواطنين بمساواة أمام القانون.

4. اتحاد كونفدرالي بين الأردن ودولة فلسطينية مستقلة.

كما تم النظر في إمكانيات أخرى بما في ذلك السيناريوهات التي تتجاوز مفهوم الدولة القومية نفسه.

السيناريوهات غير المقبولة للفلسطينيين:

5. استمرار الوضع الراهن وما يتضمنه من مفاوضات مفتوحة ومتقطعة توفر غطاءً لمواصلة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وتكريس الاحتلال.

6. دولة فلسطينية بحدود مؤقتة ومحدودة السيادة تحت السيطرة الفعلية الدائمة لإسرائيل.

7. فصل أحادي الجانب من قبل إسرائيل يفرض حدودًا من طرف واحد، وقيودًا على حركة الفلسطينيين.

8. أي أفكار تتعلق بإلحاق غزة بمصر، وإلحاق الضفة الغربية بالأردن، أو غيرها من الترتيبات المشابهة.

وتم النظر أيضًا في احتمالات وسيناريوهات أخرى في هذا السياق.

في ضوء السيناريوهات المقبولة والمرفوضة الواردة أعلاه، فإن الملخص العام لما ورد في وثيقة "استعادة زمام المبادرة" (2008) يتمثل في الآتي:

يستطيع الفلسطينيون مواجهة وإحباط السيناريوهات الأربعة أعلاه (من 5 إلى 8) ويجب أن يقوموا بذلك مهما كلف الأمر.

وتمثل هذه النتيجة الواضحة والصارمة عنصرًا أساسيًا في الإستراتيجية الفلسطينية الجديدة، خاصة فيما يتعلق بإسرائيل وخططها التي تحاول تسويقها في العالم. فهناك اعتقاد اسرائيلي، يجب الاستمرار في تقويضه، يفترض بأن هذه السيناريوهات متوفرة دائمًا، وبالإمكان تطبيقها. والحقيقة أن هذا الاعتقاد يزيل عمليا أي حافز إسرائيلي للتفاوض بجدية؛ لذلك فإن أحد الأهداف الرئيسية للإستراتيجية الفلسطينية الجديدة يتمثل في تقويض هذا الاعتقاد تمامًا. وسيتم التطرق إلى هذا الموضوع في فصل "التأثير على الرأي العام الإسرائيلي ومواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية".

الأهداف الإستراتيجية:

هناك قدر من التوافق بين أعضاء مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني حول الأهداف الإستراتيجية الفلسطينية، إذ تتمثل في الأهداف الآتية: إنجاز حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بما يشمل حقه في إقامة دولة مستقلة بعد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة عام 1967، وإنجاز حقوق اللاجئين الفلسطينيين بموجب قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتحقيق المساواة للفلسطينيين الموجودين في داخل إسرائيل وضمان حقوقهم الفردية والجماعية، بالإضافة إلى الهدف الآني المتمثل في رفع الحصار عن غزة ، هذا مع الأخذ بالاعتبار وجود تفسيرات مختلفة لهذه الأهداف.

كما يوجد نوع من التوافق على أن السيناريو الأول الخاص بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على أساس حدود ما قبل عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل لقضية اللاجئين وفقا للقانون الدولي هو الهدف الإستراتيجي الوطني الفوري. ويفضل بعض الأعضاء في نهاية المطاف السيناريو الثاني أو الثالث (دولة ثنائية القومية، أو دولة ديموقراطية لجميع مواطنيها)، لكن هناك استعداد للتوحد وراء السيناريو الأول طالما أنه الأكثر جدوى، وهو الذي يتلقى أقصى قدر من الدعم الدولي. وفي نهاية المطاف هناك اتفاق على أن القرار النهائي بالنسبة لأي شكل من أشكال الحلول، يجب أن يخضع لاستفتاء وطني عام تقبل جميع الأحزاب والأطراف السياسية المعنية نتائجه.

لكن مسار الوصول إلى ذلك الهدف (السيناريو الأول) أو أي من الأهداف (السيناريوهات) الأخرى، محفوف دوما بالاختلاف والتفسيرات المتعددة للأولويات الإستراتيجية الوطنية. إن ما يجب أن تستوعبه الإستراتيجية الفلسطينية الجديدة هو مصالحة التفسيرات والأولويات المختلفة كونها ليست بالضرورة متعارضة، بل يمكن تناغمها مع بعضها البعض، على سبيل المثال كأهداف قصيرة و متوسطة وطويلة المدى، وبذلك تتحول من شكل لآخر حسب تغيير البيئة الإستراتيجية والتعديلات في جدوى السيناريوهات الإستراتيجية التي يسترشد بها. فمثلا قد يتحول السيناريوهان الثاني والثالث (دولة ثنائية القومية، ودولة ديمقراطية لجميع المواطنين) إلى شكل من أشكال السيناريو الأول (دولة فلسطينية مستقلة)، حتى لو تم ذلك عبر استخدام كافة الوسائل.

بشكل عام، إن ما يجب أن ننتبه إليه هو عدم إضاعة الجهد الوطني في افتعال معارك وهمية بين تلك السيناريوهات وأيها يتقدم على حساب البقية، بل يجب أن يكون العمل لحساب أي سيناريو منها داعما، وليس مضعفا، للسيناريوهات الأخرى.

وعلى وجه التحديد فيما يخص السيناريو الأول، الخاص بالدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي عام 1967، إذا ما ثبت بأنه غير قابل للتحقيق، فإن هذا سيؤثر مباشرة على طبيعة العلاقة بين ما هو مرغوب فيه إستراتيجيا والقدرة على تحقيقه (desirability & attainability)، بشكل يدفع نحو التحول لسيناريوهات أخرى تلقائيا. وهذا هو جوهر التفكير الذي تحاول الوثيقة نقاشه، أي البدائل والخيارات المتاحة ومقادير ونسب تحقيقها. وهذا ما سيتم التطرق إليه تحت عنوان "خطة ب: ماذا لو فشلت الإستراتيجية الجديدة؟".

الخيارات الإستراتيجية:

لقد وصلنا الآن إلى الموضوع الرئيسي في التقرير وهو السؤال الرئيسي: ما هي الخيارات الإستراتيجية الرئيسة المتاحة للفلسطينيين في وضع إستراتيجية التحرر الوطني الفلسطيني الجديدة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية المشار إليها أعلاه؟

تقوم الخيارات الإستراتيجية بربط الأهداف الإستراتيجية بالوسائل الإستراتيجية، وبالتكتيكات التي ستستخدم في تنفيذ الإستراتيجية الجديدة. إن الخيارات الإستراتيجية هي أساليب بديلة للعمل كاختلاف مسارات لتحقيق هدف واحد. وليس من الضروري أن تكون المسارات إقصائية لبعضها البعض (فقد نحتاج إلى اللجوء إلى العديد منها في نفس الوقت)، ولكن في بعض الأحيان قد نصل إلى مفترق طرق نحتاج عندها إلى اتخاذ خيار إستراتيجي محدد.

هناك مجموعة من ستة خيارات إستراتيجية (تتكامل مع بعضها، ولا ينفي أحدها الآخر) سيتم نقاشها بالتفصيل أدناه، وهي:

 الخيار الأول: احتمالية العودة إلى المفاوضات النهائية.

 الخيار الثاني: إعادة بناء الحركة الوطنية وتجديد النظام السياسي.

 الخيار الثالث: مضاعفة الدعم العربي والإقليمي والدولي (الدبلوماسية متعددة الأطراف).

 الخيار الرابع: المقاومة الذكية.

 الخيار الخامس: مقاربة القضايا وكيفيات الدفاع عنها.

 الخيار السادس: حل السلطة الفلسطينية (خطة ب).

الخيار الأول (احتمالية العودة للمفاوضات) غير مطروح حاليا كما هو معروف، بينما تشكل الخيارات من الثاني إلى الخامس جوهر الإستراتيجية الوطنية الجديدة، أما الخيار السادس (حل السلطة)، فيجب ان لا يُستبعد رغم انه غير مفضل حتى الآن عند مجموعة التفكير الإستراتيجي، ولا يمكن الوصول إليه بسهولة في الوقت الراهن، لكن قد يصبح خيارًا رئيسًا في حال فشل الإستراتيجية الوطنية الحالية (انظر أدناه تحت عنوان الخطة ب: ماذا لو الجديدة فشلت الإستراتيجية؟).

الخيار الأول: احتمالية العودة إلى المفاوضات الثنائية

الخيار الإستراتيجي الأول هو المفاوضات الثنائية مع إسرائيل، ولكنه لم يعد على الطاولة بعد الآن بعد إفشاله المتكرر من قبل إسرائيل. لذلك يجب علينا إعادة بناء إستراتيجية تحرر وطني جديدة على أساس مبادىء السلام وإعلان الاستقلال عام 1988، بعد تقييم فترة العشرين سنة من المفاوضات الثنائية المتقطعة منذ عام 1991. هذا سيجيب على استفسارنا حول إمكانية عودة الخيار الإستراتيجي للمفاوضات الثنائية في وقت ما مستقبلا. أي أن أية عودة للمفاوضات، يجب أن تكون مشروطة ومؤطرة بمبادىء وإعلان 1988. (الشروط في إعادة النظر في هذا الخيار موضحة تحت عنوان: التأثير على الرأي العام الإسرائيلي ومواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية).

لكي يحدث هذا، ستفهم إسرائيل أخيرًا إن السيناريوهات المفضلة لديها (السيناريوهات الأربعة من الخامس إلى الثامن في وثيقة استعادة زمام المبادرة) لم تعد موجودة، وإن بدائل العودة إلى مفاوضات ثنائية حقيقية على أساس مبادىء عام 1988 لن تكون الأفضل بالنسبة لها، بل الأسوأ. وسيدرك الإسرائيليون أن نتيجة "الدولة الواحدة" (إسرائيل هي الدولة الوحيدة، وتحتفظ بالسيطرة الدائمة على فلسطين الانتدابية) غير واردة ولا يمكن أن تستمر. كما أن الشعب الفلسطيني، الذي يحظى بالدعم والتعاطف الكامل من العالمين العربي والإسلامي ومن المجتمع الدولي الأوسع، لن يتخلى عن إصراره على حق تقرير المصير الوطني الكامل والاستقلال لدولة فلسطين.

كلما استمرت إسرائيل في تحدي القانون الدولي عن طريق القوة والاحتلال تعمقت عزلتها الدولية وفقدانها للشرعية. إذ كيف يمكن لإسرائيل المطالبة بالشرعية لنفسها وتنكرها في الوقت ذاته للآخر؟ وإسرائيل في طريقها الآن لأن تصبح منبوذة دوليًا كما حصل مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وستفقد صورتها التي بنتها بين الدول الغربية على وجه التحديد. إضافة إلى ذلك مع مرور الوقت، سوف تزيد الديموغرافيا في تغيير التوازن الإستراتيجي ضد إسرائيل. كما من المؤمل أن تعمل التغييرات في مصر والعالم العربي على تعزيز ذلك التغيير أيضا، فعندها لن يشكل رجحان الكفة العسكرية لصالح إسرائيل عائقًا كبيرًا، بل سيفقد ميزته الأساسية، وسوف تضعف الثقة في أي ادعاء بأن إسرائيل هي "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة" فهذه الدولة هي قامعة من الطراز الأول للمظاهرات الشعبية الديمقراطية التي تثور ضد سيطرة الاحتلال وسيادته غير المشروعة. وستكون فكرة أن إسرائيل تجسد القيم العميقة للكتاب المقدس العبري مسممة؛ بسبب الطريقة التي يتصرف بها اليهود الإسرائيليون مع جيرانهم بما يخالف تعاليمهم الدينية.

إن فقدان الشرعية التدريجي سيكون من صنع إسرائيل نفسها، وفي نهاية المطاف سوف يعترف الإسرائيليون بحماقة حكومتهم المتزايدة وسيكتشفون إن إسرائيل فاتتها الفرصة، أو الفرص، في حل الصراع قبل أن تنقلب موازين القوى لغير صالحها.

الخيار الثاني: إعادة بناء الحركة الوطنية وتجديد النظام السياسي

يتمثل الخيار الإستراتيجي الثاني في ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وبناء الحركة الوطنية الفلسطينية وتجديد النظام السياسي وبناء المؤسسات. وكما ورد أعلاه، فإن تقوية البنية الداخلية مطلب أساسي للفعالية الإستراتيجية (بمعنى ضرورة إنجازها بموازاة الخيارات الأخرى، وليس بديلًا عنها).

في هذا السياق من المهم أن تندرج أي برامج لبناء المؤسسات على المستوى الوطني، ضمن إستراتيجية إعادة بناء الحركة الوطنية وتجديد النظام السياسي، بحيث تتناغم العمليتان مع بعضهما البعض ولا تتناقضان، كما شهدنا في تجربة بناء المؤسسات في الضفة الغربية وفي قطاع غزة خلال السنوات القليلة الماضية. فعلى الرغم من الإنجازات المقدرة في بعض المجالات هنا وهناك، ما أكسب الفلسطينين سمعة واحترامًا دوليين، إلا أن ذلك كان يتم على حساب قيام إستراتيجية موحدة للتحرر الوطني، إذ ترافق بناء المؤسسات مع تضخم مهول في الأجهزة الأمنية سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة على حساب الحريات الفردية والحكم الديمقراطي ووحدة النظام السياسي، والأهم من ذلك لم يرتبط ذلك كله بشكل وثيق برؤية واضحة لإنهاء الاحتلال والتحرر.

ويسود رأي عام لدى مجموعة التفكير الإستراتيجي بأنه نظرًا لفشل خطة أوسلو بعد عام 1999/2000، فإن السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي أصبحت رهينة التمويل الأجنبي بشكل كبير، ورهينة التعاون مع إسرائيل بغية تمكنها من تأدية خدماتها لغالبية الفلسطينيين، وبالتالي فقد حُدت قدرتها من القيام بمهمة إعادة بناء الحركة الوطنية, وقيادة إستراتيجة وطنية موحدة للتحرر الوطني، ناهيك عن تنسيق المقاومة الوطنية.

وصار مطلوبًا من السلطة الفلسطينية القيام بدور سلطة المقاومة الفلسطينية، ولعب دور الحكومة المستقبلية لدولة فلسطينية في آن معا، وفي هذه الحالة تكون السلطة ومؤسساتها وبرامجها التنموية جزءًا عضويًا وأساسيًا في إستراتيجية وطنية موحدة وفاعلة (انظر عنوان "السلطة الإستراتيجية" أدناه).

إن التخلي عن إستراتيجية التفاوض غير المجدية، يعني تحرير الفلسطيينين من ضغط اللجنة الرباعية وشروطها المجحفة، وبالتالي هذا سيحرر المؤسسات الفلسطينية للعب دور أكثر استقلالية بالرغم من استمرار اعتماد حوالي 170 ألف فلسطيني وأسرهم على المعونة الأجنبية لكسب رزقهم. وهنا فإن ما وصلت إليه مجموعة التفكير الإستراتيجي يتمثل في ضرورة التجديد الجذري للمؤسسات الفلسطينية لجعلها أكثر ديمقراطية، وممثِّلة حقيقية لتطلعات جميع الشعب الفلسطيني، وإيلاء اهتمام خاص لفئة الشباب، مشددة على الدور المتصاعد لدور الشباب في إطار ترتيب البيت الداخلي، لا سيما بعد الثورات العربية، وبعد التظاهرات الاحتجاجية الشبابية في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد المؤسسات الفلسطينية وضد القيادات غير الديمقراطية وغير الممثلة لهم، إضافة إلى إبداع القطاع الشبابي فكرة التظاهر الخلاقة على الحدود مع إسرائيل في ذكرى النكبة والنكسة.

وفي سياق بناء وتجديد المؤسسات ترى المجموعة أن إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وقيام مجلس وطني فلسطيني منتخب، بالرغم من الصعوبات المعروفة، أفضل خيار للتجديد المؤسسي الشامل لأسباب ليس أقلها تواصل وتوارث شرعية هاتين المؤسستين عبر العقود بين معظم الفلسطينيين بما فيهم فلسطينيو الشتات.

كما أن إجراء انتخابات رئاسية جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة وانتخابات للمجلس الوطني هي أيضا مسألة مركزية ومفتاحية. إن إصلاح السلطة الفلسطينية والتقارب المؤسسي مع غزة يمكن أن يتم إنجازه ضمن هذا الإطار الشامل. وتتفق المجموعة على أن هذا يعتمد في النهاية على بناء الثقة بين الفلسطينيين، من جميع الخلفيات والمعتقدات السياسية والاجتماعية والدينية. وتعتبر المجموعة أن المصالحة الفلسطينية وتنفيذها وصيانتها خطوة حتمية ولا بد منها لبناء تلك الثقة، ثم لتحقيق التجدد الذاتي وترتيب البيت الداخلي. وسيتم مناقشة هذا الأمر لاحقا تحت عنوان "السلطة الإستراتيجية".

يأتي التوكيد على هذه الأمور مرة أخرى، لأن ما هو ضروري واشتراطي للإستراتيجية الفلسطينية هو تصليب الجبهة الداخلية بكونها الأرضية الأساس لاعتماد إستراتيجية داخلية وخارجية ذات فاعلية. وبوجه خاص، فإن الخيار الإستراتيجي الثالث الخاص باستقطاب مزيد من الدعم العربي والإقليمي والدولي للقضية الفلسطينية يقوم على افتراض واضح، وهو أننا بالفعل جاهزون تماما داخليا للقيام بمسؤوليات الحكم المسؤول وإدارة دولتنا، بيد أن هذه الجهوزية وحتى في حال الوصول إليها لا يمكن ممارستها بسبب الاحتلال والضغوط والاشتراطات الدولية، ونحن عمليًا نواجه مأزقا مزدوجا (الذي هو في الواقع تناقض قادم من الاشتراطات الدولية)، فمن ناحية نُطالب بأن نكون جاهزين للاستقلال ونحن تحت الاحتلال حيث يعيق هذا الاحتلال الوصول إلى تلك الجهوزية، ومن ناحية ثانية يُقال لنا إن أي تقدم نحو استقلالنا مشروط بتحقيق تلك الجهوزية.

الخيار الثالث: تأمين المزيد من الدعم العربي الحقيقي والإقليمي والدولي والاعتراف بالأهداف الوطنية الفلسطينية (الدبلوماسية متعددة الأطراف)

يكمن الخيار الإستراتيجي الثالث في استقطاب المزيد من الدعم العربي والإقليمي والدولي لتحقيق الأهداف الفلسطينية، وينتقل هذا الخيار الآن إلى مركز الصدارة بسبب السياق الإقليمي المتغير إستراتيجيا والذي قد يتطور بسرعة، وعلى الرغم من المخاطر الأولية، في اتجاه إيجابي لصالحنا؛ لذلك، فإن الهدف الرئيسي من إستراتيجيتنا الجديدة هو تحويل أكبر قدرر من مجهودنا لكسب زخم أقوى من أي وقت مضى، على الساحتين الإقليمية والدولية.

ترى مجموعة التفكير من حيث القوة إن الدعم العربي والإقليمي والدولي هو المعادل لرجحان الكفة العسكرية الإسرائيلية. فالدعم العربي الفعال والدعم الإقليمي مركزيان، إضافة إلى أن الشرعية الدولية هي القوة الأكثر فاعلية على المدى الطويل. إن القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان الجماعية والفردية هما أرض المعركة الحاسمة في المدى المنظور، أي أن للفلسطينيين الحق تقرير المصير بشكل جماعي، وكأفراد، ولهم الحق في ممارسة الحقوق الفردية خاصة فيما يتعلق باللاجئين. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود دعم كبير للقضية الفلسطينية من قبل المجتمع المدني العربي والدولي، الذي ينبغي تعبئته لممارسة أقصى الضغوط على الحكومات العربية، خاصة في مصر.

قد تكون الدول العربية مشغولة بأوضاعها الداخلية في الوقت الراهن، إلا أن ذلك سوف ينقضي على المدى المتوسط بما يدعم ميزان القوى لصالحنا. حيث بدا هذا واضحًا مع التغير السريع في السياسة الخارجية المصرية تجاه إسرائيل وفتح معبر رفح. وبموازاة ذلك فهناك تزايد متسارع في الدعم الدولي، وبشكل ملحوظ في محافل المنظمات الحقوقية وغير الحكومية، إزاء الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ويتوازى معه زيادة الانتقاد لما تقوم به إسرائيل حاليا من بناء المستوطنات بكونه ضد الشرعية الدولية وما يتولد عنه استفزاز بالغ، ويجب محاولة بذل أقصى جهدنا لإحراز تقدم كبير في ساحة الرأي العام العالمي، إذ أصبحت مصدر قلق كبير للإستراتيجيين الإسرائيليين في محاولة منهم لمعرفة كيفية مواجهة وتيرة التأييد المتسارعة لحقوقنا.

وفي إطار مناقشة هذا الخيار، فإن تحليل المصالح والثقل النسبي لمختلف الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة (الدول والمنظمات الإقليمية والأمم المتحدة) فيما يتعلق بالأهداف الإستراتيجية الفلسطينية هو الجوهر الرئيس. وسيتم التطرق له لاحقا تحت عنوان "السياق الإستراتيجي".

وفي هذا الإطار أيضا، من الضروري التوقف بعض الشيء عند فكرة الحصول على الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية وغيرها من الأهداف الإستراتيجية على النحو المحدد في إطار سيناريو انتزاع دولة فلسطينية مستقلة. وهنا علينا أن نركز على الارتباط الكبير بالخيار الإستراتيجي الثاني.

إن الدور الرئيسي لهذا الخيار ضمن الإستراتيجية العامة للتحرر الوطني هو إظهار أن النظام والحكم السياسي الفلسطيني على قدر كامل من المسؤولية السياسية والقانونية بما يؤهله للالتزام بتطبيق المعايير الدولية للاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، حيث أقرت مؤسسات دولية كبرى بالكفاءة والأهلية السياسية والقانونية الفلسطينية، كما هو حال البنك الدولي وعدة مؤسسات دولية وجهات فاعلة أخرى. وعلينا أن نبرز هذه الكفاءة والأهلية حتى ينكشف بشكل أكثر وأكبر بأن العائق الرئيسي أمام ترجمة تلك الكفاءة والأهلية على الأرض هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي، ما سيزيد من الضغط الدولي على إسرائيل وإبطال حجتها الزائفة القائمة على عدم استعداد الفلسطينيين لإقامة دولتهم.

إن ما يجب علينا بلورته بشكل لا لبس فيه هو أن الاحتلال الإسرائيلي العسكري والكولونيالي هو الذي يمنع الفلسطينين من السيادة والسيطرة على أراضيهم بشكل فعال ومتصل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي يحبط قيام دولة فلسطينية. وعلينا أن نكون متيقظين إلى أن اشتراط جهوزيتنا لاستلام دولة هو في الأصل مرفوض؛ لأن حق تقرير المصير القومي يجب ألا يكون مشروطًا بالقدرة على إدارة الدولة، ورأينا مؤخرًا كيف اعترف العالم بدولة جنوب السودان من دون وضع أي شروط على جهوزية الجنوبيين لإقامة الدولة وإدارتها.

ناقشت مجموعة التفكير الإستراتيجي بتوسع وعمق مسألة الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية، وكانت هناك تحذيرات قوية من أن أي محاولات سابقة لأوانها حول الاعتراف قد تضر أكثر مما تنفع، إذا كان هذا يعني مجرد الاعتراف بمناطق السلطة الفلسطينية الحالية (فقط 22% من 42% من أرض فلسطين التاريخية) بالتالي يعني تجميد الوضع الراهن.

وأكدت المجموعة في هذا السياق على مدى أهمية اتخاذ مشورة معمقة جدًا في القانون والإجراءات الدولية واختيار طريقنا عبر حقول الألغام المحيطة بهذه الخطوة، وهذه توصية محددة ورئيسة تم إدراجها تحت عنوان "الخطاب الإستراتيجي". وعلينا أن نعي بإدراك كامل أن للقانون الدولي ركنين أساسيين: أحدهما سياسي، والآخر أخلاقي، وعلينا استثمار الاثنين والانتباه إلى أن عدونا سوف يحاول إعاقتنا عند كل منعطف وإيقاعنا في شراك خطيرة، وعلى سبيل المثال يجب أن يكون واضحا أن مطلبنا بالاعتراف بدولة فلسطينية لا يتضمن الاعتراف بأي تغيير في حدود عام 1967، وأن المصادقة على أي تغيير مرتبط بذلك هو مهمة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة. وقد جاء الإعلان الأصلي عام 1988، في وقت كان فيه لمنظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني السلطة الكافية للتحدث باسم الشعب الفلسطيني، وهو أمر غير متوفر اليوم إذ لا تستطيع السلطة أو المنظمة الإقرار بمبادىء جديدة على ذات القدر من الخطورة، لذا يجب أن يكون واضحا أن التفاوض على تفاصيل كهذه وقضايا أخرى تظل مؤقتة حتى يتم إنشاء دولة جديدة تماما.

إن دولة فلسطينية قائمة بالفعل وذات دستور وسلطة منتخبة عبر آليات ديمقراطية هي وحدها صاحبة الحق في اتخاذ القرارات الكبرى التي تتعلق بالمصلحة الوطنية العليا والمصادقة عليها. إن أحد مصادر الاختلالات الأساسية التي رافقت سنوات التفاوض الطويلة ينبع من عدم التكافؤ في المفاوضات بين دولة قائمة الكيان وكيان محتل (ليس دولة بعد). لذلك يجب من الآن فصاعدًا أن تكون مبادئ 1988 المقرة في مبادرة السلام ووثيقة الاستقلال هي الأساس لأي مفاوضات ثنائية في المستقبل.

وضمن السياق الأوسع للحصول على الدعم الإقليمي والدولي بشكل عام، ناقش أعضاء المجموعة العناصر التي قد تشكل خيارات محددة من أجل الحصول على الدعم الدولي للسيادة الفلسطينية والاستقلال، وتتضمن الآتي:

أولاً: اعتراف الدول والمنظمات الدولية بدولة فلسطينية على حدود عام 1967.

هذه العملية قيد الحدوث الآن، حيث تم إحراز تقدم كبير فيها، وحسب رأي ساد في مجموعة التفكير ترتبط هذه العملية والتوجه الفلسطيني بشكل عام نحو استقطاب الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية بالإحباط الفلسطيني من إدارة أوباما وفشلها في الضغط على إسرائيل. لذا من المنطقي والمفروض تحويل التركيز إلى مناطق أخرى في العالم، مثل: أوروبا، وأمريكا اللاتينية، ومناطق أخرى يتتابع فيها اعتراف الدول بفلسطين. في المقابل كان هناك وجهة نظر أخرى تقول بأن الولايات المتحدة لن تتخلى طواعية عن دورها القيادي في الصراع، بل ستحاول فرضه من خلال اللجنة الرباعية أو من خلال مبادرات أحادية الجانب في الأشهر المقبلة (انظر الملخص).

ثانيًا: قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو كامل في الأمم المتحدة.

هذه الإمكانية خاضعة لحق النقض من قبل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ورغم ذلك فهي جديرة بالمتابعة، وتتطلب تضافر الخبرة في التحضير من أجل كسب التأييد عبر الحملات الإعلامية، وارتفاع مستوى الزيارات إلى عواصم الدول الممثلة في مجلس الأمن الدولي.

ثالثًا: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو كامل في الأمم المتحدة.

يؤدي هذا المسار إلى إرجاع المشكلة الفلسطينية إلى أصلها، ويعتمد على استخدام قرار الجمعية العامة رقم (377) الخاص بالاتحاد من أجل السلام (تشرين الثاني 1953) والذي تم استخدامه بالفعل فيما يتعلق بفلسطين. ومرة أخرى، فإنه من الضروري النظر بعناية في النتائج والتحضير جنبا إلى جنب مع كسب تأييد الجهة التي ستقوم بعقد الجلسة الطارئة.

رابعًا: الوصاية الأممية على الأراضي الفلسطينية.

وتتمثل في دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة لإحالة قضية فلسطين إلى اللجنة الخاصة بإنهاء الاستعمار. ويجب التشديد هنا على أن المسألة ليست مسألة الاحتلال العسكري الإسرائيلي فقط الذي يضع المسألة تحت اتفاقية جنيف الرابعة والاتفاقيات القانونية الأخرى، لكنها أيضا مسألة الاستعمار النشط المتجسد في مواصلة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. أي أننا أمام مسألتين في آن معا: احتلال عسكري، واستعمار. وتنص المادة الأولى من قرار الجمعية العامة رقم (1514) (كانون ثاني 1960)، الذي فتح الطريق إلى إنشاء اللجنة عام 1962، إلى "أن إخضاع الشعوب للاستعباد الأجنبي وهيمنته واستغلاله يشكل إنكارًا أساسيًا لحقوق الإنسان، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، ويشكل عائقا أمام تعزيز السلام العالمي والتعاون". ويكمن الخطر هنا في عدم تحديد واضح للأراضي، ما يمكن إسرائيل من استغلال هذا لاستثناء القدس ووادي الأردن والأراضي "الحرام" الخاضعة لسيطرتها الخالصة.

يجب أن تتم مقاربة جميع هذه الخيارات الفرعية بالتفصيل، خطوة خطوة، مع إظهار مزايا وسلبيات أي منها في كل مرحلة من المراحل.

الخيار الرابع: المقاومة الذكية

هو مصطلح تم صياغته في وقت سابق ضمن تقرير مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني "استعادة زمام المبادرة 2008" (حيث تم وصفه في التقرير تحت عنوان "وسائل إستراتيجية" بدلا من "خيار إستراتيجي"). وتشير "المقاومة الذكية" إلى الاستخدام الذكي، والمرن، والمركز بعناية للمكونات الفرعية المختلفة التي تشكل الخيار الإستراتيجي الواسع النطاق للمقاومة الوطنية بوجه عام، حيث تعمل هذه معا ضمن إستراتيجية وطنية موحدة، يتم تبنيها أو إسقاطها وفقا لفاعليتها، أو تبعا لعدم تأثيرها، أو عند إحراز نتيجة عكسية فيما يتعلق بجهد التحرير الوطني ككل. وحتما يوجد هنا جدل مشروع ومجال لمزيد من النقاش الشامل في هذا الأمر.

وتشمل المقاومة الذكية مجموعة كاملة من الخيارات المتعددة كحملات مقاطعة إسرائيل(BDS) وملاحقتها في أروقة القضاء الدولي، وفرض عقوبات عليها وسوى ذلك، التي يعتبرها أعضاء المجموعة مشروعة تماما وفعالة على وجه العموم في الضغط على إسرائيل، لإجبارها على الاعتراف بحقوق الإنسان الفلسطينية المنصوص عليها في "نداء المجتمع المدني" عام 2005. وتتجاوز إستراتيجيات المقاطعة وجوانبها المتعددة ما تقوم به السلطة الفلسطينية من حظر ومقاطعة لمنتجات المستوطنات، إذ إننا نعرف أن أيديها مكبلة باتفاقية باريس وأن حرية تحركها في هذا المجال محدودة.

وفي سياق المقاومة الذكية، تحتل المقاومة الشعبية الجماعية وغير العنفية مكانًا رئيسًا؛ بسبب فاعليتها المدهشة وقوتها المؤثرة عندما تواجه آلة قمع وحشية وقوى أمن يتم لجم توحشها عبر الطبيعة السلمية للاحتجاجات، كما رأينا في ثورتي تونس ومصر وحالات أخرى من "الربيع العربي". ونوقشت إستراتجية المقاومة الشعبية الجماعية وغير العنفية بتوسع في مناقشات مجموعة التفكير الإستراتيجي باعتبارها جزءًا من إستراتيجات المقاومة بكل أشكالها، التي أقرها القانون الدولي للشعب الخاضع تحت الاحتلال بما في ذلك الكفاح المسلح.

وبرز ميل في نقاشات المجموعة يعكس مزاجا فلسطينيا شبه عام في المرحلة الراهنة يتجه لتبني هذا النوع من المقاومة أو ذاك حسب الظروف المتاحة، والمكتسبات التي يمكن تحقيقها، ومن دون التمسك المتشدد بشكل واحد من أشكال المقاومة بصرف النظر عن المعطيات المحيطة.

وفي ما يتعلق بالمقاومة الشعبية على وجه التحديد تم التذكير بأن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت ريادية في هذا المضمار، وأعادت وضع القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية من خلال عبقرية العمل الشعبي والجماعي العام. وهذا النوع من العمل الشعبي السلمي الجماهيري هو الذي أنجح الثورات العربية وأسقط الدكتاتوريين في بلدانها. ومع ذلك، لم يتم استغلال القوة الكاملة لهذا الخيار الإستراتيجي إلا بشكل جزئي حتى في الانتفاضة الأولى، وظل مصدرًا من مصادر القوة غير المستغلة، وهو بانتظار الاستثمار والتفعيل الكامل في إطار إستراتيجية التحرر الوطني الجديدة.

يوجد إحساس عام بضرورة اتساع نطاق المقاومة الشعبية بحيث يُعاد تنشيط جبهات التحرير الشامل بجميع أنواعها، خاصة التي تقف الشرائح الشبابية على رأسها. فالشباب الفلسطيني الصاعد الذي يقود على الأرض مجالات متعددة من المقاومة الشعبية هو أحد أهم الخزانات الإستراتيجية للنضال والتحرير في المرحلة المقبلة، سواء داخل فلسطين أم في إسرائيل أم في الشتات. ويعمل التفعيل الأوفى للطاقة الشبابية الهائلة بين الفلسطينين على إنهاض وتفعيل موارد الشعب الفلسطيني بأكملها، ويبث فيها روحا جديدة على مستوى شعبي، أو دبلوماسي، أو إعلامي، أو على صعيد المجتمع المدني والشبكات الاجتماعية، فضلا عن الأحزاب والتنظيمات السياسية. إن إطلاق حيوية جديدة شعبية وشاملة (باستلهام تجربة الانتفاضة الأولى، وروح الثورات العربية الظافرة) يعني توليد قوة كافية، لقيادة وتوجيه إستراتيجية التحرر الوطني الجديدة القادرة على إنجاز الأهداف الوطنية.

وناقشت المجموعة أيضا دور المقاومة المسلحة فيما يتعلق بهذا كله، ولا يوجد خلاف حول اعتبار الكفاح المسلح أداة كاملة الشرعية تبعا للقانون الدولي في حالات الاحتلال الأجنبي، الذي ينتج بالبداهة مقاومة وحركات تحرر وطني ضده. ورأى كثيرون من المجموعة في الكفاح المسلح عنصرا "معادلا" ولو جزئيا للقدرة العسكرية الإسرائيلية على أساس أن إسرائيل لن تقوم بتقديم أي تنازلات ما لم يتم تصحيح الاختلال في التوازن العسكري، وأشير في هذا السياق إلى أمثلة حرب أكتوبر عام 1973، والعمل العسكري لحزب الله في جنوب لبنان الذي قاد إلى الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000... الخ). في ذات الوقت اعتقد آخرون، ربما الأغلبية، بأن الوقت ليس مناسبا الآن للتشديد على الكفاح المسلح؛ لأنه يقوي موقف إسرائيل ويوفر لعناصر يمينية إسرائيلية أدوات الدعاية لتبرير استخدام القوة، ونقل طبيعة الصراع من مربع احتلال عسكري واضح إلى مربع مواجهة عسكرية بين طرفين.

ويرتبط بإستراتيجيات المقاومة الذكية الموقف من الهجمات على المدنيين، فكان في المجموعة ميل يشدد على أن الهجمات على المدنيين ليس لها دور في الإستراتيجية الجديدة للتحرر الوطني كونها تشكل خرقا واضحا للقانون الدولي، وهذا ما تتشبث به إستراتيجيتنا الفلسطينية أساسا. وبحسب التجربة الماضية فإن الهجمات على المدنيين قادت إلى وصم النضال الفلسطيني الشرعي بـ "الإرهاب" واستنفار الرأي العام الدولي ضده.

الخيار الخامس: مقاربة القضايا وكيفيات الدفاع عنها

يتعلق بضرورة تحسين وتعزيز المنطلقات التي نعتمد عليها في سياق حملات الدفاع عن الحقوق الفلسطينية في مواجهة المحاولات الإسرائيلية لطمس تلك الحقوق في المحافل الدولية. وهذا الخيار يركز على تطوير اللغة الحقوقية المقنعة دوليًا التي توسع من دائرة الأنصار والمؤيدين، وتطوير آليات التعبير عن هذه اللغة. وقد رأينا في الثورات العربية كيف أن رفع الشعار المناسب (المطالبة بالحقوق، والكرامة، والحرية، والديمقراطية)، مضافًا إليه استخدام الآليات والأساليب المناسبة (المقاومة الشعبية والسلمية، الجماهيرية وليس النخبوية، الإعلام التلفزيوني والاجتماعي) قد حقق مكاسب هائلة. ونحن ندرك أنه بالتوازي مع الصراع الشرس على الأرض، فإن هناك حربًا ضروسًا على مستوى الخطاب والشعار والمحاججة القانونية والأخلاقية بيننا وبين إسرائيل، فمن ينجح في تحديد وفرض اللغة التي تناقش فيها القضايا يقطع شوطًا كبيرًا في تحديد النتائج النهائية للنقاش نفسه.

لقد سيطرت إسرائيل وحلفاؤها في الولايات المتحدة في الماضي على جزء كبير اللغة الخاصة بتأطير شكل الصراع وتصويره دوليًا. ولكن الأمور تتغير الآن، وبات علينا العمل بكل جدية على فرض لغتنا ومحاججتنا في النقاش وتحديد مصطلحاته وخطابه الحقوقي: خطاب حق تقرير المصير الوطني، والحرية، والتحرر من الاحتلال، والحقوق الفردية والجماعية، والقانون الدولي. هذا هو الخطاب الذي يجب أن يسود ويتموضع فيه النقاش حول مصيرنا الوطني.

وفي هذا السياق ناقشت مجموعة التفكير الإستراتيجي الفلسطيني الأهمية القصوى، الذي يجب إعطاؤها للنشاط الإعلامي والتعبوي والنشاط القانوني.

فإعلاميًا، أوصت المجموعة بأهمية التأثير على القنوات الإخبارية الدولية، واستخدام وسائل الإعلام الاجتماعية (الفيسبوك، تويتر وغيرهما)، وتنظيم المقابلات والندوات، وتنسيق عمل السفراء الفلسطينيين، وتنظيم وتنشيط الجاليات الفلسطينية، وتوظيف الفنون الإبداعية بما فيها الأفلام، وكذلك جميع جوانب الدعاية والإعلام الأخرى المتوفرة نتيجة ثورة الاتصالات.

وقانونيًا، دعت المجموعة صانعي القرار الفلسطيني إلى ضرورة تعيين لجنة خبراء دائمة في القانون الدولي والإجراء المؤسسي، من أجل توفير التحليل وإبداء المشورة باستمرار، كما هو الحال في مسألة السعي إلى الاعتراف الدولي، وكما هو مبين أعلاه في الخيار الإستراتيجي الثالث.

المهم هنا ودائما هو أن المسألة ليست ممارسة تمرين علاقات عامة، أو نشاط تظاهري لتبيان المهارات الإعلامية أو السجالية، ومبارزة الإسرائيلين فيها كأنها تنافس مهني، فالأمر متعلق بمصيرنا الوطني والجماعي والفردي، فتكمن في قلب صراع الخطابات حقائق لا يمكن إنكارها، من تشريد قسري، ويوجد هنا مبادئ غير قابلة للجدل أو المساومة حول الحقوق الجماعية والفردية.

إن صراع اللغة والمصطلح والخطاب الذي نخوضه ليس بين روايتين تتقاربان في المشروعية والتماثل: رواية فلسطينية، ورواية إسرائيلية، هناك راوية واحدة ومحتل واحد وشعب واحد تحت الاحتلال، وهذا ما نريد ان يعكسه خطابنا الفلسطيني. ونرفض أن يوسم هذا الخطاب ببالنوعة الذاتية وأنه مجرد وجهة نظر فلسطينية محدودة، إذ إن جوهر خطابنا يعبر في عمقه عن أفق إنساني يتناغم مع توق البشر للحرية ورفضهم للظلم أينما كانوا ومهما اختلفت جنسياتهم وعقائدهم، إنه خطاب يصف ظلما واقعيا وق